خمسون سنة وعنوان بيتنا ينتهي بـ"المتفرع من ميدان الحجاز" .. ونبالغ في التأكيد بأنه بعد محطة مترو ميدان " سانت فاتيما".. مصر الجديدة كانت ميادين تفتح أذرعها، شوارع تتفرع كأغصان الشجر.. الشوارع الداخلية خمائل تنعم بمساحات خضراء كالريف الانجليزي .. كانت مساحة العمارة تبدأ بالرصيف العريض المقابل للعمارة، وتشجيره مسؤولية صاحب العمارة.. عرض الرصيف متساو والحي يكرمنا بتجديد بلاط أرصفة الشوارع الرئيسية مجانا قبلما تتهاوى .. أغلب العمارات زرعت ثلاث شجرات ظل وتجميل، امتدادها شكل سورا أخضر طويل الساق، يحمي خصوصية السكان ويسمح بتخلل آشعة الشمس.. كان ممنوع المحلات وممنوع ارتفاع أدوار العمارة عن المسموح – أربعة ادوار فوق الأرضي - .. تدور بنا الأيام، يموت ناصر وأحلامه، ويأتى السادات وانفتاحه، فترتفع الأدوار - مخالفة ومتصالحة - تفتح محلات بتراخيص .. تدور الأيام ثانية ويتولى التنسيق الحضاري تجميل الميادين، حشيش أخضر مريح ومقاعد رخام، تماثيل وزخارف فخارية، مشهد يشرح القلب ويمتص التلوث، فرحة .. تظهر بخجل وذوق، مشروعات لمساعدة الشباب، محلات زهور زجاجية بمواصفات مساحية محددة تؤمن حق المشاة في الرصيف.. تدور الأيام ثالثة وتنقض الكباري على الميادين.. غزو الأسمنت!! أعمدة تحمل كباري تمرق بين جسد مصر الجديدةكالأخطبوط، يعم تلوث بصري وتنفسي، مقابل سيولة مرورية لا يمكن إنكارها.. نحدث خريطة تحركاتنا، نلتقط ملامح الشوارع من بين فتحات أعمدة الكباري، ونعزي أنفسنا بصفات المواطن الصالح.. نصحو صباحا وقد انسدت الفراغات، تم ملؤها بمحلات تجارية ألف لون، ومقاه بلدي وكافيهات، تتطلب براعة لفت أنظار الزبون صوت وصورة، لأن الايجار مرتفع، والزبون في الشارع!!
وفي لحظات من عمر التاريخ، اختفت معالم الميادين!! فرح بنت العمدة منصوب وفاتورة الكهرباء يدفعها الزبون!! داهمتنا توهة أسلمتنا لغربة زمانية ومكانية.. بدأت المحلات القديمة تنسحب كسادا، واختناقا لإختفاء الرصيف، وأماكن ركن الزبون!!
لماذا أكتب عن واقع فرض نفسه وأجبرنا على التأقلم، وعلى تكييف التبصر والذاكرة!؟ أكتب لأن الرصيف أصبح سبوبة، وتبادل مصالح بين المؤجر والمالك!! يؤجر بتصريح من الحي والمحافظة!! لا حق للمشاة، ولا حرمة للبيوت، ولا فرض شروط أمن وأمان للمواطن!!
بالأمس ذهبت لكشف طبي قريب من المرحوم "ميدان الحجاز"، الذي كممته وحزمته وحجًبًتًه المحلات باتساع وبقٌبحِ فج!! فوجئت بمحل "جزارة" يلتهم الناصية المواجهة للكوبري!! محل فاخر ثلاثى المداخل الزجاجية، واجهة إعلانات وتسويق!! يعلن أنه مؤسسة لحوم تقدمها مذبوحة بدمها أو وجبات شهية فوًاحة!! مشوي ومحمر ومشمر، ساندوتش وطبق، والتوصيل للمنازل!! فليتهلل السكان بسباق موتوسيكلات الدليفري ودوي موسيقى شكمانتها، وينعمون بروائح النيء والمستوى!! أصابني فزع لأن المحل المخالف لكل الشروط (صحيا وجماليا وأمن وسلامة) ملاصق لمدرسة ومستشفى!! مدرسة – الطبري - يخرج منها مندفعين مئات تلامذة لا رصيف يحميهم!! سألت طبيبتى كيف صمتم!؟ أجابت جمعنا توقيعات لا أدري مصيرها، لكن المحل الذي افتتح في رمضان الماضي، ظل يعمل اسابيع (بيع وشوى) ويغلق أسابيع.
التقطت صورة المحل، فوجدت أسماء " امان" ومزارع الهدى" واسم المفروض هو للجزار المستأجر، لأصدق نفسي أولا!! أعلم أن سلاسل "أمان" تتبع جهاز الأمن الغذائي الحاصل على دعم من البنك الدولي.. وأثق أن الجهاز لن يبادر أبدا بمخالفة قد تصبح هدفا توسعيا لجزارين أصابهم الكساد، او مشاركين في حملات المقاطعة!!
في انتظار غضب رئيس حي مصر الجديدة ومحافظ القاهرة، من سوء استخدام الرخصة!! لمسئوليتهما المباشرة في تأمين سلامة المواطن، على الأقل خارج حدود مسكنه.. وسلامة التلامذة، والمرضى، وتأمين حق المواطن في بيئة نظيفة، ورصيف خال من الإشغالات.. حفظ الله مصر من وسواس شيطان الجباية الذي يجول، يخترع مفاسد، ويعمي البصائر.. مفاسد تستنزفنا ماديا وأمنيا في فترة عصيبة مٌرهقة لا تحتمل إضافة.. السلام لوطني.
---------------------------
بقلم: منى ثابت